فصل: تفسير الآيات (1- 8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.سورة الأحزاب:

.تفسير الآيات (1- 8):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)}
هذه السورة مدنية. وتقدم أن نداءه، صلى الله عليه وسلم: {يأ أيها النبي}، {يا أيها الرسول} هو على سبيل التشريف والتكرمة والتنويه بمحله وفضيلته، وجاء نداء غيره باسمه، كقوله: {يا آدم} {يا نوح} {يا إبراهيم} {يا موسى} {يا داود} {يا عيسى} وحيث ذكره على سبيل الأخبار عنه بأنه رسوله، صرح باسمه فقال: {محمد رسول الله} {وما محمد إلا رسول} أعلم أنه رسوله، ولقنهم أن يسموه بذلك. وحيث لم يقصد الإعلام بذلك، جاء اسمه كما جاء في النداء: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} {وقال الرسول يا رب} وغير ذلك من الآي. وأمره بالتقوى للمتلبس بها، أمر بالديموية عليها والازدياد منها. والظاهر أنه أمر للنبي، وإذا كان هو مأموراً بذلك، فغيره أولى بالأمر. وقيل: هو خطاب له لفظاً، وهو لأمّته.
وروي أنه لما قدم المدينة، وكان يحب إسلام اليهود، فبايعه ناس منهم على النفاق، وكان يلين لهم جانبه، وكانوا يظهرون النصائح في طرق المخادعة، ولحلفه وحرصه على ائتلافهم ربما كان يسمع منهم، فنزلت تحذيراً له منهم وتنبيهاً على عداوتهم. وروي أيضاً أن أبا سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور السلمي قدموا في الموادعة التي كانت بينهم وبينه، وقام عبد الله بن أبي، ومعتب بن قشير، والجد بن قيس فقالوا له: ارفض ذكر آلهتنا وقل: إنها تشفع وتنفع، وندعك وربك؛ فشق ذلك عليه وعلى المؤمنين، وهموا بقتلهم، فنزلت. وناسب أن نهاه عن طاعة الكفار، وهم المتظاهرون به، وعن طاعة المنافقين، وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر. فالسببان حاويان الطائفتين، أي: ولا تطع الكافرين من أهل مكة، والمنافقين من أهل المدينة، فيما طلبوا إليك. وروي أن أهل مكة دعوه إلى أن يرجع إلى دينهم، ويعطوه شطر أموالهم، ويزوجه شيبة بن ربيعة بنته؛ وخوفه منافقو المدينة أنهم يقتلونه إن لم يرجع، فنزلت.
ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها واضحة، وهو أنه حكى أنهم يستعجلون الفتح، وهو الفصل بينهم، وأخبر تعالى أنه يوم الفتح لا ينفعهم إيمانهم، فأمره في أول هذه السورة بتقوى الله، ونهاه عن طاعة الكفار والمنافقين فيما أرادوا به. {إن الله كان عليماً حكيماً}: عليماً بالصواب من الخطأ، والمصلحة من المفسدة؛ حكيماً لا يضع الأشياء إلا مواضعها منوطة بالحكمة؛ أو عليماً حيث أمر بتقواه، وأنها تكون عن صميم القلب، حكيماً حيث نهى عن طاعة الكفار والمنافقين. وقيل: هي تسلية للرسول، أي عليماً بمن يتقي، حكيماً في هدي من شاء وإضلال من شاء. ثم أمره باتباع ما أوحي إليه، وهو القرآن، والاقتصار عليه، وترك مراسيم الجاهلية. وقرأ أبو عمرو: بما يعملون، الأولى والثانية بياء الغيبة؛ وباقي السبعة: بتاء الخطاب، فجاز في الأولى أن يكون من باب الالتفات، وجاز أن يكون مناسبة لقوله: {واتبع}، ثم أمره بتفويض أمره إلى الله.
وتقدم الكلام في {كفى بالله} في أول ما وقع في القرآن. روي أنه كان في بني فهر رجل فيهم يقال له: أبو معمر جميل بن أسد، وقيل: حميد بن معمر بن حبيب بن وهب بن حارثة بن جمح، وفيه يقول الشاعر:
وكيف ثوائي بالمدينة بعدما ** قضى وطراً منها جميل بن معمر

يدعي أن له قلبين، ويقال له: ذو القلبين، وكان يقول: أنا أذكى من محمد وأفهم؛ فلما بلغته هزيمة بدر طاش لبه وحدث أبا سفيان بن حرب بحديث كالمختل، فنزلت. وقال الحسن: هم جماعة، يقول الواحد منهم: نفس تأمرني ونفس تنهاني. وقيل: إن بعض المنافقين قال إن محمداً له قلبان، لأنه ربما كان في شيء، فنزع في غيره نزعة ثم عاد إلى شأنه، فنفى الله ذلك عنه وعن كل أحد. قيل: وجه نظم هذه الآية بما قبلها، أنه تعالى لما أمر بالتقوى، كان من حقها أن لا يكون في القلب تقوى غير الله، فإن المرء ليس له قلبان يتقي بأحدهما الله وبالآخر غيره، وهو لا يتقي غيره إلا بصرف القلب عن جهة الله إلى غيره، ولا يليق ذلك بمن يتقي الله حق تقاته. انتهى، ملخصاً. ولم يجعل الله للإنسان قلبين، لأنه إما أن يفعل أحدهما مثل ما يفعل الآخر من أفعال القلوب، فلا حاجة إلى أحدهما، أو غيره، فيؤدي إلى اتصاف الإنسان بكونه مريداً كارهاً عالماً ظاناً شاكاً موقناً في حال واحدة. وذكر الجوف، وإن كان المعلوم أن القلب لا يكون إلا بالجوف، زيادة للتصوير والتجلى للمدلول عليه، كما قال تعالى: {ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} فإذا سمع بذلك، صور لنفسه جوفاً يشتمل على قلبين يسرع إلى إنكار ذلك.
{وما جعل أزواجكم}: لم يجعل تعالى الزوجة المظاهر منها أماً، لأن الأم مخدومة مخفوض لها جناح الذل، والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره كالمملوك، وهما حالتان متنافيتان. وقرأ قالون وقنبل: {اللائي} هنا، وفي المجادلة والطلاق: بالهمز من غير ياء؛ وورش: بياء مختلسة الكسرة؛ والبزي وأبو عمرو: بياء ساكنة بدلاً من الهمزة، وهو بدل مسموع لا مقيس، وهي لغة قريش؛ وباقي السبعة: بالهمز وياء بعدها. وقرأ عاصم: {تظاهرون} بالتاء للخطاب، وفي المجادلة: بالياء للغيبة، مضارع ظاهر؛ وبشد الظاء والهاء: الحرميان وأبو عمرو؛ وبشد الظاء وألف بعدها: ابن عامر؛ وبتخفيفها والألف: حمزة والكسائي؛ ووافق ابن عامر الآخرين في المجادلة؛ وباقي السبعة فيها بشدها. وقرأ ابن وثاب، فيما نقل ابن عطية: بضم الياء وسكون الظاء وكسر الهاء، مضارع أظهر؛ وفيما حكى أبو بكر الرازي عنه: بتخفيف الظاء، لحذفهم تاء المطاوعة وشد الهاء.
وقرأ الحسن: تظهرون، بضم التاء وتخفيف الظاء وشد الهاء، مضارع ظهر، مشدد الهاء. وقرأ هارون، عن ابي عمرو: تظهرون، بفتح التاء والهاء وسكون الظاء، مضارع ظهر، مخفف الهاء، وفي مصحف أبي: تتظهرون، بتاءين. فتلك تسع قراءات، والمعنى: قال لها: أنت علي كظهر أمي. فتلك الأفعال مأخوذة من هذا اللفظ كقوله: لبى المحرم إذا قال لبيك، وأفف إذا قال أف. وعدى الفعل بمن، لأن الظهار كان طلاقاً في الجاهلية، فيتجنبون المظاهر منها، كما يتجنبون المطلقة، والمعنى: أنه تباعد منها بجهة الظهار وغيره، أي من امرأته. لما ضمن معنى التباعد، عدى بمن، وكنوا عن البطن بالظهر إبعاداً لما يقارب الفرج، ولكونهم كانوا يقولون: يحرم إتيان المرأة وظهرها للسماء، وأهل المدينة يقولون: يجيء الولد إذ ذاك أحول، فبالغوا في التغليظ في تحريم الزوجة، فشبهها بالظهر، ثم بالغ فجعلها كظهر أمه. وروي أن زيد بن حارثة من كلب سبي صغيراً، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء أبوه وعمه بفدائه، وذلك قبل بعثة رسول الله، فأعتقه، وكانوا يقولون: زيد بن محمد، فنزلت.
{وما جعل أدعياءكم أبناءكم} الآية: وكانوا في الجاهلية وصدر الإسلام إذا تبنى الرجل ولد غيره صار يرثه. وأدعياء: جمع دعي، فعيل بمعنى مفعول، جاء شاذاً، وقياسه فعلى، كجريح وجرحى، وإنما هذا الجمع قياس فعيل المعتل اللام بمعنى فاعل، نحو: تقي وأتقياء. شبهوا أدعياء بتقي، فجمعوه جمعه شذوذاً، كما شذوا في جمع أسير وقتيل فقالوا: أسراء وقتلاء، وقد سمع المقيس فيهما فقالوا: أسرى وقتلى. والبنوة تقتضي التأصل في النسب، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية، فلا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلاً غير أصيل. {ذلكم}: أي دعاؤهم أبناء مجرد قول لا حقيقة لمدلوله، إذ لا يواطئ اللفظ الاعتقاد، إذ يعلم حقيقة أنه ليس ابنه. {والله يقول الحق}: أي ما يوافق ظاهراً وباطناً. {وهو يهدي السبيل}: أي سبيل الحق، وهو قوله: {ادعوهم لآبائهم}، أو سبيل الشرع والإيمان. وقرأ الجمهور: يهدي مضارع هدى؛ وقتادة: بضم الياء وفتح الهاء وشد الدال. و{أقسط}: أفعل التفضيل، وتقدم الكلام فيه في أواخر البقرة، ومعناه: أعدل. ولما أمر بأن يدعى المتبني لأبيه إن علم قالوا: زيد بن حارثة {ومواليكم}؛ ولذلك قالوا: سالم مولى أبي حذيفة. وذكر الطبري أن أبا بكرة قرأ هذه الآية ثم قال: أنا ممن لا يعرف أبوه، فأنا أخوكم في الدين ومولاكم. قال الرازي: ولو علم والله أباه حماراً لانتمى إليه، ورجال الحديث يقولون فيه: نفيع بن الحارث. وفي الحديث: «من ادعى إلى غير أبيه متعمداً حرم الله عليه الجنة» {فيما أخطأتم به}، قيل: رفع الحرج عنهم فيما كان قبل النهي، وهذا ضعيف لا يوصف بالخطأ ما كان قبل النهي.
وقيل: فيما سبق إليه اللسان. أما على سبيل الغلط، إن كان سبق ذلك إليهم قبل النهي، فجرى ذلك على ألسنتهم غلطاً، أو على سبيل التحنن والشفقة، إذ كثيراً ما يقول الإنسان للصغير: يا بني، كما يقول للكبير: يا أبي، على سبيل التوقير والتعظيم. وما عطف على ما أخطأتم، أي ولكن الجناح فيما تعمدت قلوبكم. وأجيز أن تكون ما في موضع رفع بالابتداء، أي ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح. {وكان الله غفوراً} للعامد إذا تاب، {رحيماً} حيث رفع الجناح عن المخطئ.
وكونه، عليه السلام، {أولى بالمؤمنين من أنفسهم}: أي أرأف بهم وأعطف عليهم، إذ هو يدعوهم إلى النجاة، وأنفسهم تدعوهم إلى الهلاك. ومنه قوله، عليه السلام: «أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها تقحم الفراش» ومن حيث ينزل لهم منزلة الأب. وكذلك في محصف أبي، وقراءة عبد الله: {وأزواجه أمهاتهم}: وهو أب لهم، يعني في الدين. وقال مجاهد: كل نبي أبو أمته. وقد قيل في قول لوط عليه السلام: هؤلاء بناتي، إنه أراد المؤمنات، أي بناته في الدين؛ ولذلك جاء: {إنما المؤمنون إخوة} أي في الدين. وعنه عليه السلام: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة. واقرأوا إن شئتم: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}، فأيما مؤمن هلك وترك مالاً، فليرثه عصبته من كانوا؛ وإن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي» قيل: وأطلق في قوله تعالى: {أولى بالمؤمنين}: أي في كل شيء، ولم يقيد. فيجب أن يكون أحب إليهم من أنفسهم، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها، وحقوقه آثر، إلى غير ذلك مما يجب عليهم في حقه. انتهى. ولو أريد هذا المعنى، لكان التركيب: المؤمنون أولى بالنبي منهم بأنفسهم. {وأزواجه أمهاتهم}: أي مثل أمهاتهم في التوقير والاحترام. وفي بعض الأحكام: من تحريم نكاحهن، وغير ذلك مما جرين فيه مجرى الأجانب. وظاهر قوله: {وأزواجه}: كل من أطلق عليها أنها زوجة له، عليه السلام، من طلقها ومن لم يطلقها. وقيل: لا يثبت هذا الحكم لمطلقة. وقيل: من دخل بها ثبتت حرمتها قطعاً. وهمَّ عمر برجم امرأة فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونكحت بعده، فقالت له: ولم هذا، وما ضرب علي حجاباً، ولا سميت للمسلمين أماً؟ فكف عنها. كان أولاً بالمدينة، توارث بأخوة الإسلام وبالهجرة، ثم حكى تعالى بأن أولي الأرحام أحق بالتوارث من الأخ في الإسلام، أو بالهجرة في كتاب الله، أي في اللوح المحفوظ، أو في القرآن من المؤمنين والمهاجرين، أي أولى من المؤمنين الذين كانوا يتوارثون بمجرد الإيمان، ومن المهاجرين الذين كانوا يتوارثون بالهجرة. وهذا هو الظاهر، فيكون من هنا كهي في: زيد أفضل من عمرو.
وقال الزمخشري: يجوز أن يكون بياناً لأولي الأرحام، أي الأقرباء من هؤلاء، بعضهم أولى بأن يرث بعضاً من الأجانب. انتهى. والظاهر عموم قوله: {إلى أوليائكم}، فيشمل جميع أقسامه، من قريب وأجنبي، مؤمن وكافر، يحسن إليه ويصله في حياته، ويوصي له عند الموت، قاله قتادة والحسن وعطاء وابن الحنفية. وقال مجاهد، وابن زيد، والرماني وغيره: {إلى أوليائكم}، مخصوص بالمؤمنين.
وسياق ما تقدم في المؤمنين يعضد هذا، لكن ولاية النسب لا تدفع في الكافر، إنما تدفع في أن تلقي إليه بالمودة، كولي الإسلام. وهذا الاستثناء في قوله: {إلا أن تفعلوا} هو مما يفهم من الكلام، أي: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} في النفع بميراث وغيره. وعدى بإلى، لأن المعنى: إلا أن توصلوا إلى أوليائكم، كان ذلك إشارة إلى ما في الآيتين. {في الكتاب}: إما اللوح، وإما القرآن، على ما تقدم. {مسطوراً}: أي مثبتاً بالأسطار، وهذه الجملة مستأنفة كالخاتمة، لما ذكر من الأحكام، ولما كان ما سبق أحكام عن الله تعالى، وكان فيها أشياء مما كانت في الجاهلية، وأشياء في الإسلام نسخت. أتبعه بقوله: {وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم}: أي في تبليغ الشرائع والدعاء إلى الله، فلست بدعاً في تبليغك عن الله. والعامل في إذ، قاله الحوفي وابن عطية، يجوز أن يكون مسطوراً، أي مسطوراً في أم الكتاب، وحين أخذنا. وقيل: العامل: واذكر حين أخذنا، وهذا الميثاق هو في تبليغ رسالات الله والدعاء إلى الإيمان، ولا يمنعهم من ذلك مانع، لا من خوف ولا طمع. قال الكلبي: أخذ ميثاقهم بالتبليغ. وقال قتادة: بتصديق بعضهم بعضاً، والإعلان بأن محمداً رسول الله، وإعلان رسول الله أن لا نبي بعده. وقال الزجاج وغيره: الذي أخذ عليهم وقت استخراج البشر من صلب آدم كالذر، قالوا: فأخذ الله حينئذ ميثاق النبيين بالتبليغ وتصديق بعضهم بعضاً، وبجميع ما تضمنته النبوة. وروي نحوه عن أبيّ بن كعب، وخص هؤلاء الخمسة بالذكر بعد دخولهم في جملة النبيين. وقيل: هم أولو العزم لشرفهم وفضلهم على غيرهم. وقدم محمد صلى الله عليه وسلم، لكونه أفضل منهم، وأكثرهم أتباعاً. وقدم نوح في آية الشورى في قوله: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً} الآية، لأن إيراده على خلاف. الإيراد، فهناك أورده على طريق وصف دين الإسلام بالأصالة، فكأنه قال: شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح في العهد القديم، وبعث عليه محمد خاتم الأنبياء في العهد الحديث، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير.
والميثاق الثاني هو الأول، وكرر لأجل صفته. والغلظ: من صفة الأجسام، واستعير للمعنى مبالغاً في حرمته وعظمته وثقل فرط تحمله. وقيل: الميثاق الغليظ: اليمين بالله على الوفاء بما حمله. واللام في {ليسأل}، قيل: يحتمل أن تكون لام الصيرورة، أي أخذ الميثاق على الأنبياء ليصير الأمر إلى كذا.
والظاهر أنها لام كي، أي بعثنا الرسل وأخذنا عليهم المواثيق في التبليغ، لكي يجعل الله خلقه فرقتين: فرقة يسألها عن صدقها على معنى إقامة الحجة، فتجيب بأنها قد صدقت الله في إيمانها وجميع أفعالها، فيثيبها على ذلك؛ وفرقة كفرت، فينالها ما أعد لها من العذاب. فالصادقون على هذا المسؤولون هم: المؤمنون. والهاء في {صدقهم} عائدة عليهم، ومفعول {صدقهم} محذوف تقديره: عن صدقهم عهده. أو يكون {صدقهم} في معنى: تصديقهم، ومفعوله محذوف، أي عن تصديقهم الأنبياء، لأن من قال للصادق صدقت، كان صادقاً في قوله. أو ليسأل الأنبياء الذي أجابتهم به أممهم، حكاه علي بن عيسى؛ أو ليسأل عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم، حكاه ابن شجرة؛ أو ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم، قاله مجاهد، وفي هذا تنبيه، أي إذا كان الأنبياء يسألون، فكيف بمن سواهم؟ وقال مجاهد أيضاً: {ليسأل الصادقين}، أراد المؤدين عن الرسل. انتهى. وسؤال الرسل تبكيت للكافرين بهم، كما قال تعالى: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} وقال تعالى: {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} {وأعد}: معطوف على {أخذنا}، لأن المعنى: أن الله أكد على الأنبياء الدعاء إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين. {وأعد للكافرين عذاباً أليماً}، أو على ما دل عليه: {ليسأل الصادقين}، كأنه قال: فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين، قالهما الزمخشري. ويجوز أن يكون حذف من الأول ما أثيب به الصادقون، وهم المؤمنون، وذكرت العلة؛ وحذف من الثاني العلة، وذكر ما عوقبوا به. وكان التقدير: ليسأل الصادقين عن صدقهم، فأثابهم؛ ويسأل الكافرين عما أجابوا به رسلهم، كقوله: {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين فعميت عليهم الانباء} و{أعد لهم عذاباً أليماً} فحذف من الأول ما أثبت مقابله في الثاني، ومن الثاني ما أثبت مقابله في الأول، وهذه طريقة بليغة، وقد تقدم لنا ذكر ذلك في قوله: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق} وأمعنا الكلام هناك.